الاستراتيجيات البيداغوجية الجديدة
النشأة التاريخية، الأسس النظرية، والمبادئ التطبيقية
جامع وارزامــن
1- ما به تتميز الاستراتيجيات البيداغوجية الجديدة ( إ.ب.ج) عن التربية التقليدية
إن
عمر (إ.ب.ج) اليوم يزيد عن القرن، و لكنه عمر قصير مقارنة مع االبيداغوجيا
التقليدية التي عمرت لمدة قرون. و لكن ما المقصود بعبارة ” البيداغوجيا
التقليدية” ؟ يعرفها كل من Françoise Raynal و Alain Rieunier ([1] ) في قاموسهما كالتالي:
» البيداغوجيا التقليدية : تعبير ملتبس ، لأنه لا يحيل على نموذج للتعليم بعينه…غير أنه يبدو أن السمات الأساس للبيداغوجيا التقليدية هي التالية :
· قبولها دون أي تحفظ للسلطة التي تجمع بين المكوِّن و المكوَّن،
· قبولها بنتائج مدرسية موزعة تقريبيا وفق منحنى Gauss،
· قبولها بمبدأ بموجبه:” يتحدد دور المدرس في تقديم المعرفة، و يتحدد دور التلميذ في تنظيم ذاته ليتعلم.”
»
تستند البيداغوجيا التقليدية على مسلمة خاطئة إلى حد كبير مؤداها أن
المعرفة توجد خارج الدماغ ، و أن مهمة البيداغوجيا تتمثل في نقل هذه
المعرفة إلى دماغ التلميذ (فكان التركيز على التعليم) ، وأن هذه المعرفة
يجب أن تخزن في ذاكرته ، (فكان التركيز على الاستذكار) ، وأن هذه المعرفة
ستنبجس من الذاكرة ، سليمة دون أن يلحقها أي تغيير في الوقت المناسب. و
الذي يثير الاستغراب هنا هو كون المدرسين كانوا دائما يدركون إخفاق هذه
الاستراتيجية – فهم لم يتوقفوا قط عن الشكوى من أن المعارف التي قدمت
للمتعلمين بإحكام و التي بدا أنه قد تم تخزينها في الذاكرة، تتأبى عن
الحضور حين يطلب منهم استذكارها ( أو لا يبقى منها في الذاكرة غير الفتات
)- ولكنهم، و على الرغم من إدراكهم لهذه الحقيقة مازالوا مستمرين في
محاولتهم نقل المعرفة إلى دماغ المتعلم، دون أن يتوقفوا عن الاغتياظ من كون
المتعلمين لم يحصلوا شيئا من الدروس السابقة، و عن اليأس وقد صدمتهم
حقيقةٌ كون ما قدم من دروس نظرية لا يسعف حين التطبيق. «
تهتم
المقاربة التقليدية للتعليم بالمعرفة:في شكل وقائع، و معطيات، و مفاهيم، و
نظريات، و قواعد، و مهارات. التعلم وفق هذه المقاربة التقليدية ينحصر في
الاستذكار واسترجاع ما تم تخزينه في الذاكرة، و يكون مقياس و مؤشر حصول
التعلم هو كمية المعارف المخزنة في ذاكرة المتعلم.
أساس
المقاربة التقليدية هو المصادرة على أن المعارف و المعلومات المخزنة في
الذاكرة يمكن تلقائيا استرجاعها و تعميمها و تطبيقها لاحقا في الوضعيات
التي ستواجه المتعلم في الحياة. و من ثم كان حرصها على تنظيم المعارف و
بناء المحتويات المعرفية في صيغة مواد دراسية، تنظيما محكما و بناء منطقيا و
ذلك للاعتقاد بأن هذا البناء و ذاك التنظيم، حين يكونان بالصفتين
المذكورتين، وحدهما كفيلان بجعل هذه المعارف، سهلة الاستيعاب، يسيرة
المتناول، قابلة الاستعمال.
المدرس،
في هذه التصور، متخصص خبير بمادة تخصصه، ذو سلطة معرفية لا تنازع. وظيفته
هي تقديم المعارف لمتعلمين فارغي الذهن، لهذا تفضل المقاربة التقليدية من
بين الوسائل البيداغوجية المحاضرة والإلقاء و التوضيح. المتعلم في هذا
التصور مستقبل سلبي تابع، ينحصر دوره في الاستماع و المشاهدة و تخزين ما
يقدم له دون نقد أو مراجعة، وأثناء الاختبار يكون مطالبا باستذكار و
استظهار ما خزنه.. لذلك تكون حصيلة المتعلمين في هذه المقاربة ضئيلة، و
يجدون صعوبة بالغة في استعمال و تطبيق ما قدم لهم من معارف.، وذلك لأسباب
يمكن إجمالها، تبعا لبعض الدراسات، كالتالي:
· المتعلمون في هذه المقاربة يتغيبون ذهنيا أثناء الدرس بنسبة 40 بالمائة؛
· يتضاءل مستوى الانتباه كلما تقدم الدرس؛
· تصل
نسبة التحصيل في الدقائق العشر الأولى من الدرس الإلقائي إلى 70 بالمائة
ثم تتناقص لتصل إلى 20بالمائة خلال الدقائق العشر الأخيرة؛
· بعد مرور أربعة أشهر لا يتبقى من المعارف المقدمة حول موضوع معين سوى 8 بالمائة.
تكشف
هذه الدراسات أن المنهاج التقليدي يشجع على الدراسة القصيرة المدى التي
تنتهي بانتهاء الامتحانات.فيكون التعلم فيها سطحيا: حيث الأسبقية لتخزين
المعارف و المعلومات في الذاكرة، و تبعية المتعلم للمدرس، و يغيب فيها
التساؤل الفاعل و النشيط، و لا تحظى مسألة إيجاد الروابط بين المعارف و
المعلومات أو الأفكار، بعضها ببعض، بأي اهتمام. الممارسة التعليمية في هذه
المقاربة لا تثير شهية التعلم.
لا
سبيل لإخراج المدرسين من هذه الحلقة المفرغة التي تفرض عليهم إتباع أساليب
تربوية عديمة الجدوى سوى حملهم على إدراك أنه بالنسبة للدماغ لا توجد أية
حقيقة خارج ما يدركه وأن الدماغ لا يمسك إلا بالحقائق التي يبنيها أو التي
يعيد بناءها، إعادة البناء هذه تتم انطلاقا مما يعلمه الدماغ مسبقا و
اعتمادا على ما أقامه من رواشم([3] ) للتأويل
،و على أساس من العلاقة التي تنتظمه وكلَّ معلومة يستقبلها و هو يتفاعل مع
محيطه. بناء على هذا يتبين أن لا جدوى من كل محاولة تستهدف إحداث اكتساب
للمعرفة عند الآخر بكيفية مباشرة و أن السبيل السليم هو مساعدة المتعلم
ليقوم بنفسه و لأجل نفسه بتنظيم و إعادة تنظيم معارفه. و ذلك ما تسعى إليه
الاستراتيجيات البيداغوجية الجديدة
2- تجارب عملية ناجحة تولدت عنها ( ا.ت.ج).
يكشف
التأمل في تاريخ نشأة ( إ.ب.ج) أنها ارتبطت من حيث الظهور بنجاحها في
تربية أو إعادة تربية متعلمين ذوي الحاجات الخاصة يعانون من إعاقات،
متعلمون كانوا يوصفون في المقاربة التقليدية بأنهم فاشلون دراسيا أو مهددون
بالفشل و الانقطاع عن متابعة التعلم و الدراسة.
كان كل رائد من رواد ( ا.ت.ج) في بدايته يهدف إلى علاج إخفاق المقاربة التقليدية في تعليم التلاميذ الذين يوصفون اليوم بأنهم متعثرون أو ذوو صعوبات.فكان أن ابتدع كل رائد منهم مقاربة أبانت عن نجاحها في جعل هؤلاء المتعلمين يحققون تعلمات لا تقل عما يحققه زملاؤهم الذين سلموا من هذه الإعاقات.
لقد
كشفت تجارب رواد( ا.ت.ج) الممارسين ميدانيا ، أن التعلم محكوم بالطبيعة
البشرية للكائن المتعلم أكثر مما هو محكوم بالتنظيم المحكم و البناء
المنطقي المعارف المقدمة محتويات للمواد الدراسية . و جاءت أبحاث الرواد
النظار، من علماء النفس، خاصة لتعزيز ذلك. وقد تمكنت العلوم المعرفية
اليوم من البرهنة على سلامة الأسس العلمية لأغالب تجارب و أبحاث أولئك
الرواد ممارسين كانوا أو نظارا.
أ- رواد( ا.ت.ج) الممارسون
ماريا
مونتسوري (1870-1952)، طبيبة إيطالية، نجحت في إعادة تربية أطفال معاقون
ذهنيا، كان يعتقد أنه ميؤوس من تعلمهم ، و ذلك بحملهم على إشراك كل أعضائهم
الحسية بفعالية . و قد استعانت بطريقتها هذه لتعليم أطفال سليمين فكانت
النتائج باهرة. أغلب صناع الألعاب التربوية اليوم يستلهمون طريقة مونتسوري و
مبادئها البيداغوجية التي أسستها انطلاقا من تجربتها الميدانية .
أوفيد
دوكرولي(1871-1932) طبيب بلجيكي سار على خطى مونتسوري ففتح مدرسة للأطفال
المتأخرين عقليا جاعلا من أنشطة المتعلمين أنفسهم محور طريقته .ثم فتح بعد
ذلك مدرسة لأطفال عاديين ، فكانت النتائج رائعة .
جون ديوي (1859-1952) فيلسوف و عالم نفس أمريكي أسس مدرسة تقوم على التعلم من خلال العمل ، فكان ذلك إعلانا لولادة بيداغوجيا المشروع ، القائمة على أن التعلم يتحقق خلال الممارسة و العمل .
إدوارد
كلاباريد (1873- 1940) طبيب سويسري، من أتباع ديوي و دكرولي صادر على مبدإ
مفاده أن الطريقة البيداغوجية يجب أن يكون منطلقها هو اهتمامات المتعلمين ،
فكان أن جعل من اللعب البيداغوجي مركز طريقته التربوية.
سيليستان
فرينيه (1896- 1966) مرب فرنسي ابتدع حركة ما يعرف بالمدرسة الحديثة ، و
هي حركة تتميز باعتمادها على المقاربة التعاونية حيث يتعلم المتعلم و هو
ينجز أعمالا وفق إيقاع خاص به.
ب- رواد( ا.ت.ج) النظار
جان
بياجي (1896-1980) عالم أحياء و عالم نفس سويسري معروف بأبحاثه العلمية
مؤسس ما يعرف بالبنائية. يرى بياجي أن نقل المعارف من شخص يعلم إلى شخص لا
يعلم أسطورة لا تقوم على أساس علمي. قادته تجاربه الميدانية وأبحاثه إلى
قناعة مؤداها أن المعرفة بناء أي أن كل واحد منا يبني معرفته أساسا بواسطة
ما يمارسه من أفعال جسدية و ذهنية أثناء معالجته للموضوعات و الأشياء.
تتحقق عملية البناء هذه في الوقت الذي يصل فيه الفرد إلى مستوى من النضج
الجسدي و السيكولوجي الذي يمكنه من ممارسة فعله على الموضوعات و الأشياء و
التحكم في ما يجمعه بهذه الموضوعات و الأشياء من علاقات. كل معرفة في تصور
بياجي هي فعل يمارس على موضوع: بحيث لا تكون النتيجة هي المعرفة الحاصلة عن
ممارسة الفعل على موضوع معين فحسب، و أنما تنتج عن ذلك سلسلة من رواشم هذا
الفعل تنطبع في الدماغ، رواشم الفعل هذه تنتظم في بنيات عملية تمكن
صاحبها من التصرف بإحكام وفق متطلبات الوضعية التي تواجهه. تنطلق نهيجة (
صيرورة) التعلم، في هذا المنظور، كلما كان المرء إزاء مشكل أو أحس بانتفاء
الملاءمة و التوافق عن وضعية يجد نفسه منخرطا فيها أو مواجها لها.
يكون
المرء طفلا أو راشدا في وضعية تعلم في كل مرة يكون فيها فعله غير مناسب و
لا ملائم أو موافق لمحيطه، و حين تتولد لديه الرغبة والعزم على رد الأمور
إلى حالها الطبيعي من توافق و مناسبة و ملاءمة.
ليف
سومينوفيتش فيكوتسكي (1896-1934) من علماء السيميولوجيا و عالم نفس روسي،
من بين السباقين إلى التأكيد على أهمية التفاعل بين الطفل و بيئته. و كان
يلح بكيفية أساسية على أهمية تدخل الراشد كوسيط في تعلم الطفل و نموه. يكون
تدخل الراشد في تصور فيكوتسكي إيجابيا إذا كانت قادرا على احترام
الإيقاع الخاص بالمتعلم، و إذا كان قادرا على رصد اللحظة التي تكون فيها
قدرة من قدرات المتعلم قد اكتمل نموها، لتقديم أنشطة تمكن هذا المتعلم من
تنمية قدرة جديدة. يسمي فيكوتسكي هذه اللحظة أو( المنطقة ) بحيز النمو
الموالي[4].
يطلق
فيكوتسكي حيز النمو الموالي على اللحظة التي يكون فيها المتعلم قادرا، حين
تقدم له المساعدة، على حل مشكل معين لم يكن بمقدوره حله دون مساعدة.أما ما
يقوم به الراشد من تدخل في هذا الحيز لمساعدة المتعلم فيسمى بالتسنيد [5]
إنه نمط من المساعدة يتناسب و حاجات المتعلم و الذي يتم تقليصه تدريجيا
كلما تقدم المتعلم في تعلمه. مفهوم التسنيد هذا يتميز عن التصور التقليدي
القائم على أن السبيل إلى تبسيط المهمة المقدمة للمتعلم هو تقطيعها إلى
وحدات قابلة للمعالجة و المناولة. يقع مفهوم التسنيد في الطرف المقابل لهذا
التصور التقليدي لأنه يقوم على فكرة مؤداها أنه من اللازم ليتحقق التعلم
أن يقدم للمتعلم و منذ البداية دعم مناسب يمكنه من إنجاز مهمة وظيفية و
كاملة، و يتم تقليص هذا الدعم بتنامي مهارات الطفل .
يقوم
هذا المفهوم المحوري في نظرية فيكوتسكي على تحديد الحيز الفاصل بين الحدود
الدنيا و الحدود القصوى لإمكانيات التعلم الكامنة ويكون دور الراشد هو
التدخل قصد الدفع بحدود هذا الحيز قدر الإمكان نحو حدودها القصوى.[6]
ما يطرحه فيكوتسكي من أفكار و هو يحلل دور الثقافة في نمو الفرد، هي شديدة الشبه بتلك التي نجدها عند مايرسون. (1888-1983)Meyerson وخاصة في مؤلفه الموسوم ب” الوظائف السيكولوجية و المنجزات”les fonctions psychologiques et les œuvres الصادر سنة (1948) حيث الفكرة المحورية فيه هي المعبر عنها بقوله :» ينزع الإنسان إلى أن يتصنم [7] و يرتمي[8] بكليته في ما يحققه من منجزاتoeuvres « (ص.69). وعليه فمهمة علم النفس هي » البحث عن المحتويات الذهنية في وقائع و صنائع الحضارة الموصوفة « (ص.14) أو » الكشف عن طبيعة العمليات الذهنية المتورطة في ذلك « (ص.138).
يعلن مايرسون في مقدمة أطروحته أن أنشطة الإنسان و أفعاله تنتهي بأن: »
تتجسد في مؤسسات أو منجزات (…) ، بواسطة الجهد الذهني يتمكن الإنسان من
إقامة هذه المنجزات بل بهذا الجهد الذهني وحده إذ أنه بذهنه يوجه يديه، و
به يصنع الأداة، و به يشكل المادة، إن (…) ذهن الإنسان موجود في
منجزاته(…)إن الفعل و الفكر الإنسانيين يتجسدان في ما يقيمه من منجزات «
عن تصورات كل من بياجي و فيكوتسكي تولدت المقاربة المسماة سوسيوبنائية و هي مقاربة تجمع
بين ما يميز أطروحة كل واحد من العلمين. فإذا كان بياجي يركز على المظاهر
البنيوية و على القواعد الكلية أساسا ( ذات الأصل البيولوجي) للنمو، فإن
فيكوتسكي كان يركز على إسهام الثقافة، و التفاعل الاجتماعي، و البعد
التاريخي للنمو. الذهني.
يرى
فيكوتسكي أن ما يميز الكائن البشري هو ميله إلى الاجتماع و أن هذه الميزة
مركوزة في طبعه ، و هي الفكرة نفسها التي نجدها عند هنري فالون Henri Wallon حين يؤكد أن الفرد البشري » اجتماعي بالوراثة « ( فالون ،1959)
كورت
كوفكا (1886-1941) و فولفكانك كوهلر (1887-1967) و هما ألمانيان، جيروم
برونر المولود سنة (1915) و روبير ميلز كانيي المولود سنة (1916)، و هما
أمريكيان، هؤلاء جميعا يمثلون تيارين كان لهما الأثر الكبير في التعرف و
تحديد نهيجة التعلم.
التيار
الأول:هو تيار الجشطالتيين الألمان، و قد له فضل المساهمة في فهم الكيفية
التي يتم بها تثبيت آثار التعلم و ترسيخها في النسيج العصبي للدماغ.
فبينوا أهمية التباين بين الخلفية و الشكل في بناء التمثلات، فشكل أبيض على
خلفية بيضاء يكون غير مرئي، على خلاف شكل أبيض على خلفية سوداء. يؤكد
الجشطالتيون كذلك على كون التعلم وثيق الارتباط بالنضج البيولوجي للجهاز
العصبي، وأن التعلم ليتحقق غالبا ما يكون في حاجة إلى فترة للحضانة و
التخصيب قبل أن ينبثق في شكل قفزات متعاقبة و غير منتظرة.
التيار الثاني:هو التيار المعرفي cognitif و الذي يمثله برونير و كانيي، و قد تمثل إسهامهم في التأكيد على أن نهيجة التعلم هي بالأساس نهيجة المعالجة المعرفية للمعلومات[9]. فالمتعلم من خلال هذه المعالجة ينتهي إلى بناء تمثل للواقع يستجيب لحاجاته و أهدافه و مقاصده و تصوراته القبلية.
هذا
التمثل الذي ينتج عن المعالجة المعرفية للمعلومات يكون بناء أو منتجا
يتولد عن عمليات ذهنية على درجة من التعقيد تُعتمَد حين معالجة أنماط
مختلفة من المعلومات: كالإحساسات، و الإدراكات، و الانفعالات، والمشاعر، و
الذكريات، و الصور، وترابط الأفكار، و الاستعارات، و المقارنات، ، الخ.
3- تركيب
سنحاول
تقديم تركيب لما تقدم به هؤلاء الرواد الأوائل، نظارا و ممارسين، من أفكار
و وجهات نظر في ما يخص التعلم عند الكائن البشري، و ذلك في النقط الخمس
التالية:
1- لا يمكن أن يتحقق تعلم مستدام ما لم تحترم الطبيعة البيولوجية و السيكلوجية لهذا التعلم و ما لم يحترم إيقاع النضج الخاص بكل متعلم .
2- لا يتحقق التعلم المستدام إلا من خلال الممارسة و الفعل و اشتغال الذات المتعلمة على موضوع التعلم.
3- تحقق التعلم المستدام مشروط باهتمام الذات المتعلمة بموضوع التعلم .
4- من
شروط تحق التعلم أن يمتلك المتعلم تمثلا سليم عن موضوع التعلم، و عن الفعل
الذي يستوجبه التحكم في هذا الموضوع و الإحاطة به، إضافة إلى امتلاكه
تمثلا واضحا لأهمية الإقبال على هذا الفعل و معالجة هذا الموضوع.
5- يكون
التعلم سريعا وذا مردودية جيدة، إذا كان المتعلم مصاحَبا في اللحظة
المناسبة بمتدخل ( قد يكون هذا المتدخل طفلا آخر أو راشدا) يفوقه دراية و
إحاطة بالموضوع المعالج.
لقد
تمكن الباحثون، في مجال العلوم المعرفية، اليوم، و ذلك بفضل التقدم
التكنولوجي، من الولوج إلى الخابية المظلمة للدماغ، ليؤكدوا صحة جل ما ذهب
إليه هؤلاء الرواد. فهم شبه مجمعون، على ضوء ما تحقق من معرفة بآليات
اشتغال الدماغ ،البيولوجية و السيكولوجية،على أن التعلم يقوم على التفاعل
بين ثلاثة أنساق ديناميكية: نسق للتمثلات، و نسق للدافعية، و نسق للفعل.
يرى علماء الخلايا العصبية المحدثون أن المعارف savoirs و المعروفات connaissances ليست مجرد تسجيل ساكن للمعطيات . فالذات تتدخل بدينامكية فاعلة في بناء معرفتها، و هو ما يعبر عنه Daniel Schacter قائلا: » إن
ذاكرتنا وهي تستقبل صور العالم… تعمل بدينامكية، لترتيب و إعادة الترتيب، و
بناء و إعادة البناء، و صياغة و إعادة صياغة، ما تستقبله مستعينة، بما
احتوته سابقا من شظايا المعروفات، لتحكم ربط العلاقات و الأواصر بين
مكونات العالم المختلفة و بين ما لنا من حاجات و أهداف « [10].
من نتائج البحث، اليوم، في مجال علوم الخلايا العصبية، نتيجة مؤداها أن التمثلات (معارف و معروفات) من الناحية السيكولوجية هي خادمة للفعل action، و أنها في تحققها خاضعة للدافعية motivation، و ذلك لأن الدماغ على المستوى الكهر- كميائي لا ينبعث لبناء التمثلات في غياب الدافعية و انعدام المحفزات.
لقد
كشف رجال العلم هؤلاء، قديمهم و محدثهم، على اختلاف مشاربهم و تخصصاتهم،
عن نقائص المقاربة التقليدية وهي تولي العناية الفائقة للمعروفات، و أعادت
أبحاثهم و تجاربهم ترتيب هرمية المعارف فصارت الأسبقية للقدرة على إتيان
الفعل المحكم[11]، و للقدرة على الفعل المتقن[12] ، و للقدرة على التصرف[13]
بالمخزون الانفعالية و الاستثمار الرشيد للدوافع و المحفزات، أما
التمثلات فلها مرتبة الخادمة لهذه القدرات. لقد انتهى العهد الذي كانت
فيه المعروفات التصريحية[14] أو المسطرية[15] أو الشرطية[16]
رئيسة ، فلم يبق لها من مبرر وجود سوى خدمة هذه القدرات، ولم يعد لها من
دور سوى أن تكون موارد قابلة للتعبئة، لمواجهة الوضعيات، و حل ما يعرض من
مشكلات. بعد هذه الاكتشافات العلمية، لم تعد المعروفات غاية في ذاتها، أو
نقطة انطلاق للتعلمات، و إنما نقطة الانطلاق هي الدافعية، و الغاية و نقطة
الوصول هي إتيان الفعلaction و إحكامه.
لقد
أكدت تقنيات البحث الجديدة المتعلقة بالدماغ إن على المستوى البيولوجي، أو
السيكولوجي، أو الأنطولوجي، أن الحياة تسبق المعرفة، و أن الحياة تسبق ما
لنا عنها من تمثلات.التعلم ”حياة” فإن أريد له أن يكون ناجعا يلزم أن لا
نجعله يدور حول أنشطة المدرس مكتفيا بالمعروفات ، فالأضمن لنجاعة التعلم
هو أن تكون أنشطة المدرس هي التي تدور حول النشاط الطبيعي لتعلم المتعلمين
.
5- المبادئ التطبيقية
لقد
صار بالوسع الآن، اعتمادا على نتائج التجارب والدراسات المتعلقة بنهيجة
التعلم و آليات اشتغال الدماغ البشري و هو يعالج المعلومات و يبني التمثلات
و يخزنها، أن تحدد المبادئ المقومة لكل استراتيجية بيداغوجية محكمة،
تسعى لجعل المتعلم محور أنشطتها، وتهدف إلى بناء قدراته و مهاراته و
كفاياته، بما يضمن استقلاليته، و استمرارية تعلمه مدى الحياة. مبادئ يمكن
إجمالها على النحو التالي:
أ- أن تستجيب الاستراتيجية البيداغوجية لحاجات المتعلمين في الفصل؛ ( معونة التعلم )
ب- أن تجعل موضوع التعلم ذا معنى في عين المتعلم ( معننة التعلم)؛
ت- أن تحمل المتعلم على الفعل و الممارسة؛
ث- أن تحرص على إبراز التمثلات الموافقة و الملائمة لموضوع التعلم؛
ج- أن تحرص على أن يكون التعلم مستداما( أي تعلما راسخا أطول مدة ممكنة )؛
ح- أن تكون الأسبقية للإبداعية و القدرة على ترحيلtransfert التعلمات؛
خ- أن تحترم إيقاع المتعلمين؛
د- أن تقوم على الوساطة médiation.
و يمكن لهذه المبادئ أن تتحقق في أنشطة للتعلم لها الخاصيات التالية :
أ- يستجيب نشاط التعلم لحاجات المتعلم :
1- بتوفير الظروف و الشروط اللازمة ليشعر المتعلم بالاطمئنان، و يحظى بالتقدير.
2- باللجوء إلى إجراءات تخز الفضول و تثير الاهتمام.
3- بتقديم أجوبة لما يشغل المتعلم من إشكالات و قضايا.
4- باستثمار التجربة العفوية و الطبيعية للمتعلم و أن تبني التعلم انطلاقا من هذا المعطى الخام.
ب- يضفي النشاط معنى على موضوع التعلم
5-
بتقديم موضوع التعلم باعتباره بنية، لا باعتباره حاصل مجموع عناصره،
فالبنية هي التي تحدد معنى كل عنصر و وظيفته و علاقته بباقي العناصر
المتواجدة معه.
6-
بتقديم موضوع للتعلم، يجعل المتعلم قادرا على الربط داخل البنية بين
العناصر المكونة لها، و ذلك بتعين ما لكل عنصر من وظيفة أو وظائف، وبالكشف
عن التشابه و الاختلاف، وفصل الأسباب عن النتائج، و تمييز التعاقب الزماني
عن التتالي المكاني، الخ.
7-
حين يضع النشاط المتعلم في وضعية قادر على الإحاطة بموضوع التعلم متى بذل
الجهد القدر اللازم المناسب، فتكون ثمرة التعلم هي القدرة على إتيان فعل
متقن ومحكم، و يتحدد السبيل لتحقيق هذا بالاعتماد على ما يلي:
· على ما سبق لكل متعلم أن امتلكه من تمثلات ذهنية ( معروفات تصريحية، و معروفات مسطرية، و معروفات شرطية )؛
· على ما هو به ككيان، أو ما يرغب أن يكون به لحظتئذ، ( من انفعالات، و مشاعر، و رغبات، و دوافع، و مواقف و اتجاهات، الخ.)؛
· على
ما يريد أن يحياه، أو هو قادر على أن يحياه، مع الآخرين داخل الفصل، و ما
يرغب في اقتسامه مع الآخرين، مراعيا لما يسود المحيط من عادات، و لغات، و
قواعد، و أدوار، و علاقات تجمع بين المتواجدين، رسمية كانت أو غير رسمية،
الخ.
ت- يحمل النشاط البيداغوجي المتعلم على الفعل
8-
بحرصه، بجيولوجيا، على إشراك حواس المتعلم كلها، وهو ينجز النشاط، و يعالج
موضوع التعلم، ويتحقق ذلك بأن تتاح للمتعلم إمكانية التحيز المتنوع داخل
فضاء الفصل، وفرص التعبير عما يعن له بكل الوسائل المتاحة من صوت، أو
إشارة، أو إيماءة الخ.
9-
و بحرصه، سيكولوجيا، على استثمار كل الطاقة الانتباهية المبدعة، فالانتباه
ليس مجرد تلق هامد، وعليه يلزم، أن يقود النشاطُ الانتباهَ ليمتدَّ، و
يُعشَق لذاته، ليقارب حالة من التأمل والتدبر و التفكر. و أن يدفع النشاطُ
بالانتباه إلى نوع من الحلول أو الانغماس في موضوع التعلم، أو في ما يتولد
عنه من آثار حسية. أن يحمل النشاطُ الانتباهَ ليكون حيا متحركا، مستكشفا
لموضوع التعلم، و لأجزائه، و العلاقات لتي تجمع بين هذه الأجزاء ضمن كل
متكامل . أن يمكن النشاطُ الانتباهَ من الانتقال بالتناوب بين حالات من
الاسترخاء ومن الحلول أو الانغماس و الاستكشاف.
يمكن
للنشاط أن يحمل الانتباهَ على أن يتخذ له من ذاته مسافة، تمكنه من النظر
خلفا، لرؤية ما قطع من طريق حتى تلك اللحظة، و كيف أنهَجَت له الطريقُ، وأن
يحمله على استبصار صيغ المسير قدما من المعلوم نحو المجهول. اتخاذ المسافة
هذه، و بالكيفية المذكورة، يجعل الانتباه موضوعا للانتباه ذاته. بالانتباه
الخلاق يتحقق ترسيخ و تثبيت التعلمات ترسيخا و تثبيتا مستدامين.
ث- تبرز أنشطة التعلم التمثلات المناسبة و الملائمة
10-
إذا حرص كل نشاط مقدم للتعلم على إبراز تمثل دقيق لموضوع التعلم و للفعل
اللازم إتيانه لامتلاك هذا الموضوع و الإحاطة به، و يتحقق له ذلك باستثمار
السياقات و تنويع الصيغ البيداغوجية موظفا الأمثلة و المقارنات و
الاستعارات في لغة دقيقة و قريبة من فهم المتعلمين.
11-
إذا حمل النشاط المتعلم على تبين ما لموضوع التعلم من قيمة في حد ذاته، و
في استقلال عما يضفيه هو من قيم على هذا الموضوع، وذلك من خلال توفير الفرص
التي تبعث على طرح الأسئلة، و تدفع إلى مواجهة الإجابات المقدمة في الفصل
بعضها ببعض، مواجهة تمكن من تركيب ما يقدم من وجهات نظر، تركيبا غايته
محاولة تقليص مسافة التعارض أو التناقض بين ما يطرح من أفكار أو تصورات أو
افتراضات بصدد الموضوع المعالج.
ج- يستهدف النشاط تعلما مستداما ( راسخا و ممتدا أطول زمن ممكن)
12-
إذا كان النشاط مناسبة لتثبيت الجديد بين ثنايا المعلوم المتوفر السابق،
وذلك بحرصه على حمل المتعلم على استحضار ما له من علم و معرفة سابقين
بالموضوع المعالج ليمزجه بالمعارف الجديدة المقدَّمَة، أو المكتَشفة أثناء
مزاولة النشاط، و يتحقق هذا المزج بواسطة إجراءات متعددة كأن يعاد تشكيل
التمثلات سواء بالاعتماد على تعاقبها الزماني أوتتاليها المكاني ( خطاطات
، جداول ، سرد ، يوميات ،حقائب تعلمية ،الخ.) و عبر تطبيق ما تم تعلمه في
سياقات مشابهة لسياق التعلم القائم، و يكون ذلك بواسطة تمارين، أو أنشطة
لعبية، أو حل مشكلات محددة بدقة، أو دراسة حالة، الخ.
يضاف إلى ما ذكر ضرورة مراعاة الحيز الزمني الذي تتطلبه انطباعة[17] الأثر
في الخلايا العصبية: فالانتباه يحتاج على الأقل من 20 إلى 30 دقيقة
ليستدمج ما بين خمسة إلى سبعة عناصر جديدة، و تزداد المدة الزمنية كلما
كانت العناصر الجديدة على درجة مرتفعة من التعقيد أو ليست لها سوابق في
ذاكرة المتعلم.
13- أن يعمل النشاط على تنمية قدرات « الدماغ « ، و إحداث شبكات جديدة بين الخلايا العصبية، وإقامة مثالات عصبية كهركميائية [18]جديدة
وذلك بواسطة مختلف التمارين المقوية للعضلات الذهنية كالإعادة في صيغ
متنوعة ، و تنويع إيقاعات المعالجة ،و تغيير السياقات ، و تدريج الصعوبات و
التعقيدات داخل المهمة الواحدة ،و التقييم التصحيحي، و ضمان الاشتمال
المتتالي للاحق المهام الحالية على سالفها، الخ.
ح- تكون الأسبقية في النشاط للإبداعية و القدرة على ترحيل التعلمات
14- حين يجعل نشاط التعلم المتعلم قادرا على ترحيل مكتسبات التعلم إلى وضعيات جديدة و معقدة، وذلك بجعله قادرا على جعل الخفي
المشاهدات: